كتبت حنين سمير
في تمام السابعة صباحًا داخل إحدى مواقع البناء في التجمع الاول، مرتديًا ثوبه الفسفوري، واضعًا خوذته على رأسه احتسابًا لما ينتظره من أخطار تختبئ بين معدات وأدوات البناء، وقضاء نهاره ما بين الاستقامة مرة والانحناء مرات أكثر، هكذا يقضي "طه" ساعات عمله كعامل نظافة داخل موقع بناء.
طه شاب 24 سنة، يسكن بمنطقة الصف بالجيزة، وعامل في إحدى المشاريع المعمارية في التجمع الأول، يستيقظ فجرًا للذهاب إلى عمله في موعده نظرًا لبعد المسافة بينهما، ومنذ الصباح الباكر يبدأ الحركة داخل أرجاء الموقع في جمع مخلفات التنفيذ والتركيبات التي تتمثل في نواتج خلط المواد البنائية بيديه ذات البشرة الداكنة، نتيجة التعرض إلى الشمس المباشرة والتشققات التي تملأها؛ بسبب احتكاكها الدائم بكسور الحجر والزجاج وغيرها من المخاطر التي يعترض لها يوميًا، بل ولحظيًا طوال تواجده داخل الموقع، ولم تكتف خوذته بحمايته، فراحت تصيبه هي الأخرى بألم في الرأس نتيجة ارتدائها لساعات طويلة.
يعمل وهو تسكنه خيفة مما قد يصيبه في أي وقت مثلما حدث لزميل له من قبل الذي أصيب في ظهره، لكن ما يجعله يستمر بالعمل والتغلب على مخاوفه وما يحيطه؛ هو وضعه بين أفراد أسرته؛ فهو الأخ الأكبر والولد الأوحد، مما يجعل مسئولياته نحو عائلته كالطوق الذي يقيده بضرورة العمل لتلبية احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وإيجار منزل، بل وسداد ديون تجهيزات زواج أخته الصغرى، لذا فهو يمتلك الصبر على كل ما يعانيه داخل المواقع، وهو العمل الذي تعلمه عندما ترك تعليمه في الصف الأول الإعدادي رغمًا عن حث والده له على استكمال دراسته.
ويبدأ "طه" عمله كمساعد عامل بناء في نفس المجال، لكن أقلهم قدرًا ومقامًا، كان والده ذاته يطلق على هذا الدور "طفل الإنشاءات"، حيث يخدم على باقي العمال في جميع مراحل التنفيذ منذ بداية خلط الأسمنت، وحتى تركيبات خامات البناء الأخرى بمختلف أشكالها، وحتى تنظيف آثارها، ليكبر وسط الحجارة والرمال والأسمنت لا يعرف غيرهم، ولا ينتهي عمله إلا بانتهاء معدل الإنتاج المطلوب من العامل في اليوم، ويواصل يومه في عمله آخر مسائي يعينه على زيادة دخله.
الشيء الذي جعله يفكر في السفر أكثر من مرة لإحدى البلاد العربية من خلال دفع مبلغ لسماسرة السفر بطريقة غير مشروعة؛ لأن ظروف بلده حالت بينه وبين الفتاة التي يحبها، وجعلته أسير مسؤوليات كفاية احتياجات منزل أسرته، "طه" ليس الوحيد الذي احترقت أحلامه، هو واحد وسط الملايين، الذين قضوا حياتهم في حلقة لا تنتهي من العمل الشاق والفقر الدائم.
