المسحراتي
عشق الطفولة.. والخاطبة والداية فكر وراثي بالفطرة
كتبت نورا علاء
فقط في مصر، وظائف لا تجدها سوا
لدينا، بها عبق التاريخ، ولازالت تعافر قوى الزمان على محوها، حرص أصحابها جيلًا
بعد جيل على توارثها والاعتزاز بها، مهن لا تعرف معنى المقابل المادي، فقط حب
وذكريات، ويكثر تواجدهم في المناطق الشعبية، حيث لازال الناس يشبهون الأجداد
مواجهين الثقافات الدخيلة.
"أسن السكينة وأسن
المقص"
محمود الغرباوي، 55 عامًا، عامل سن
سكاكين، يحمل معه المسن ويجوب الشارع، مناديًا بجملته الشهيرة "أسن السكين
وأسن المقص"، موضحًا أنه قديمًا كانت الناس تنتظر قدومه في الشوارع، وينهالوا
عليه بالنداء حتى يكثر من حدة السكين، وكان يجني الكثير من المال، أما الآن فهو
يجوب بها لا يسمع صوت أي مناداة إلا نادرًا، وتزداد في المناطق الشعبية، فلازال
السكان فيها يبقون على كل ما هو قديم وعزيز عليهم، مستمر في مهنته حبًا بها، وسيظل
يخرج وينادي بجملته حتى يموت.
يسير فرحات سعد، 50 عامًا، بآلته في
شوارع المهندسين حاملًا المسن، وينادي بجلل وسط ضوضاء السيارات، قائلًا ببكاء إنه
يتمنى أن تعود مهنته، فهي مصدر رزقه الوحيد، ولولا بعض المارة الذين يطلبون أن يسن
لهم سكين أو مقص لما تمكن من تناول الطعام، مفضلًا مهنته؛ لأنها تشعره بعزة النفس
بدلًا من اتجاه الكثير إلى العمل في جمع القمامة أو البيع في المحلات.
"اصحى يا نايم وحد
الرزاق"
فقط في شهر رمضان بالدول العربية،
تجد رجلًا حاملًا طبلة أو آلة موسيقية أخرى، وينادي ليوقظ النيام، وفي مصر،
"حجاج عبدالدايم"، خريج كلية الزراعة، وفي شهر رمضان يتحول إلى
"مسحراتي"، تلك المهنة التي ورثها أبًا عن جد، يجد بها متعته خاصة عندما
يلتم حوله الأطفال، ويبدأ في مناداة أسمائهم، وقد حفظه أبناء الحي وحفظهم بالكامل،
مؤكدًا عدم انتظار أي مال، خاصة أن تلك المهنة دخلها يكاد يقترب من الصفر.
قبيل الفجر بطبلتها الضخمة محمولة
على رقبتها، تسير حسنية علاء،تدعو الناس للاستيقاظ، فهي تجد أن مهنة المسحراتي ليس
بها عيبًا، خاصة مع ندرة وجودها في الشوارع المصرية خاصة الجديد منها، لذلك اتجهت
إلى تلك المهنة في رمضان، ولا تعتبرها مهنة بقدر ما تعتبر أنها هواية، خاصة أنها
أضافت لمستها الجديدة لها، لتظهر بشكل عصري وتجذب أطفال هذا الجيل؛ لأنه يختلف عن
جيلهم قديمًا، والمهم أن يعيشوا ما عاشه السابقون بطريقتهم الخاصة.
الخاطبة
أما والدة زينات المحمدي 65 عامًا،
كانت تعمل "خاطبة" أو ينادوها بـ"الدلالة"، وهى تعرف جميع
فتيات الحي، وكان وقتها كل حي له باب يغلق بعد العشاء، ويفتح قرب الفجر، عدد سكانه
قليل؛ مما يسهل معرفة بعضهم البعض، كما تعرف شباب الحي، ولا تقتصر على المعرفة
السطحية فهي تكاد تعرف أسرار المنازل من الداخل، وتقوم بالتوفيق بين هذا الشاب
وتلك الفتاة لتحدث الزيجة، وتابعت "زينات" عمل والدتها، فبهذه الطريقة
زوجت بناتها وأولادها، مضيفة أن تلك الطريقة لازالت مستمرة، ولكن بشكل أكثر حداثة؛
فعرفت أن هناك مواقع تعارف، وهناك من يذهبون ببناتهم إلى الأفراح وجميعها تنصب تحت
تلك المهنة، ولكن مع اختلاف الأزمان.
الداية
تعيش ليلى محمد في منزل كان لا يفرغ
من قدوم الجيران للذهاب ومساعدة زوجتهم في الولادة داخل المنزل، موضحة أن البعض
لازال يحتاج إليها، ولا يفضلون الذهاب إلى المستشفى حتى لا تنكشف الزوجة على طبيب
رجل، ولكنها تكون حريصة على الأم وطفلها، وتستخدم في عملها الماء الساخن للتعقيم،
والكثير من المناشف، وبعد الولادة يأخذ الأب الطفل إلى الطبيب للتأكد من صحته،
وتبدأ بعدها الأم في التعافي، مؤكدة ضرورة الماء الساخن حتى لا تتعرض إلى بكتيريا
وتحدث مضاعفات.
علماء الاجتماع يؤكدون
أهميتها
أفادت هبه زكريا، أستاذة علم
اجتماع، أن استمرار مثل تلك المهن ضرورة اجتماعية ملحة، خاصة مع كثرة التيارات
الوافدة، والتي تؤثر على الهوية المصرية بشكل خطير، وهذا لا يعني أننا نرفض
الاستفادة منها، إلا أن درجة التأثر كادت تصل إلى حد التهميش، والبقاء على تلك الوظائف
هو شكل من أشكال تدعيم الهوية، ولا يقتصر التدعيم فقط على الحرف اليدوية كالنحاس
والسجاد اليدوي، ويجب على وزارة الثقافة النظر إلى تلك المهن لما تحمله من أهمية
قبل أن تندثر، متابعة أن تلك المهن لا تسبب أية مشاكل للمجتمع، بل قد يسبب المجتمع
المشاكل لها، فالتكنولوجيا ألغت العديد منها باختراع آلات أسهل ومتوفرة اغلب الوقت،
والحفاظ على تلك المهن يواجه صعوبة شديدة في الحفاظ عليه، لعدم التمكن من إيجاد
الصورة اللازمة لإبقائه.
الطب النفسي يفسر سبب
تعلقهم بتلك المهن
أوضحت نوال سراج الدين، استشاري
أمراض نفسية وعقلية، أن تلك التعلق بتلك المهن يعود لما يسمى
بـ"نوستالجيا"، وهو مصطلح يعني الحنين إلى الماضي، ويعتقد دائمًا
الأفراد أنه أكثر جمالًا عن الآن رغم مشقة تلك المهن أو الحياة بصفة عامة، وهذا
التعلق يتنج عنه شعور بالحب والامتنان، وتظهر في عدة أشياء مثل البقاء على تلك
المهن، أو الاحتفاظ بالصور القديمة وهو الأكثر شيوعًا، وكل منا يعبر عن احتياجه
للحنان بطريقة مختلفة، وعادة الاحتفاظ بذكرى معينة يرتبط بوجود أشخاص بأعينهم هم
السبب في الشعور بالحب.
وأضاف وليد هندي، استشاري أمراض
نفسية وعقلية، أن النوستالجيا لا تؤثر سلبًا على صحة الفرد النفسية، ولكن يجب
الموازنة بينها وبين الاندماج مع العصر الحديث، فليس من الطبيعي أن نجد من يسير
بزي فرعوني، لأن ذلك سيعرضه للتنمر، وبالتالي ما كان يحبه سيسبب له أزمة نفسية،
وقد يصل إلى حد الكراهية للأفراد المحيطين به.
