عماد.. رحلة من جحيم الدار إلى ظلام الشارع

مسئولو الدار عاقبوه.. فنتج عنه إصابة منعته من القدرة على الانحناء

كتبت تسنيم حسين

أحد أبناء دور الأيتام، في منتصف العشرين من عمره، "عماد.م" يروي بكلمات مليئة بالسخط والحزن قصته في الدار التي رفض الإفصاح عن اسمها، حيث عاش بها 16 عامًا، منذ أن كان لا يعي من الدنيا شيئًا، ولا يتذكر من أيامه المعدودة قبل ذهابه إليه سوى لحظة شعوره بأنه تائه في الخلاء، ومازال لا يدري إذا ما كانت هذه الذكرى حقيقية عاشها بالفعل، أم هو شعور دفين داخله يظهر في هيئة مشهد يتردد على خياله، مطاردًا له في منامه طيلة السنوات الماضية.

داخل غرفته التي يشاركه فيها اثنين من إخوته كما وصف زملائه في الدار، تلك الغرفة التي عاشوا بها  منذ صغرهم حتى المرحلة الإعدادية، وبرغم حبه لهما وعلاقتهم الودية، إلا أنهم كانوا مصدر تعاسة له، فكان يُعاقب معهم بذنب أفعالهم الخارجة عن إرادته وإرادتهما أيضًا، فبسبب مرضهم بالتبول اللاإرادي ليلًا، كانت المُربيات يلومون "عماد" لمجرد وجوده معهم في الغرفة، قائلين أنه عليه مسؤولية إيقاظهم ليلًا، ولكن لم يتم تنبيههم بالقول بل بالضرب وأسوأ سبل العقاب مثل وقوفه منحني تحت إحدى الطاولات القصيرة، نتج عنها إصابة في ظهره لازمته بقية حياته ومنعته من القدرة على الانحناء كثيرًا أو حمل أشياء ثقيلة، وغيرها من الأساليب التي خجل أن يشرحها وعجزت كلماته عن وصف أثرها في نفسه، مُلخصها أنه نتج عنها إصابته بمرض أخوته من شدة العقاب الذي أفقده القدرة على التحكم في أعصابه، وغرس بداخله الفزع والخوف طوال الليل.

وبدأت نواة الكره لهذا المكان ترويها كل أم لم تحنُ عليه في لحظة احتياجه للحنان، الذي طالما سمع عنه في المدرسة وقرأه في المناهج، لكنه لم يشعر به يومًا، ومرت أيامه شبيهة لبضعها البعض، وأخذ في الاعتياد على معاملتهن له، وأصبح يقابل انفعالهن بردود فعل هادئة، حتى وإن كان داخله شعلة موقدة ترغب في حرق كل حوله، فهو دائمًا المخطئ في نظرهم، قائلًا "الحسنة تخص والسيئة تعم".

حتى وصوله نهاية المرحلة الإعدادية، بعد أن أراد معرفة من أهله، فلجأ إلى المديرة "عواطف"، مُعلقًا "بأنها لم يكن لها من اسمها نصيب"، فقد قامت بصفعه على وجهه أمام زملائه، ولم ترضِ فضوله، فقرر الخروج عن طوعها تاركًا الدار وإخوته وكل ما في هذه الفترة من أسى وآلام طالما شعر أنها تضيق عليه الخناق يومًا بعد يوم، وتحرمه من متاع الدنيا الذي ظن أن الحائل بينه وبينها هو جدران هذا المكان الأشبه له بالسجن، ولم يدرِ بأن خارج الجدران لم يختلف كثيرًا عن داخله، بل أكثر ظلمًا ووحشة.

خرج "عماد" لشوارع الدنيا وطرقها المظلمة التي لا يفقه فيها شيء ولا يعرف بها أحد، طامحًا أن يعيش حياة طبيعية ليس طامعًا في مال أو أهل تعطف عليه، عاش ٤ سنوات بالشوارع تحت أسقف الجوامع وفوق أسطح العمارات وبيت أرصفة المحلات، حتى داخل سيارات الخردة أمام ورش الصيانة، ثم يفر مع مطلع فجر كل يوم حتى يفلت من أذى الناس خوفًا من أن يُسلم إلى أحد أقسام الشرطة، ولم يدخل الطعام جوفه في كثير من الأيام إلا تلك التي يسمح له أحد المحلات بالعمل لديه وأخذ يومية قد تكفيه لتناول الفطار، إلى أن جاءت لحظة الأمل، تلك التي وجد فيها حب وروح الأسرة، وذلك عندما قبل أحد أصحاب المحلات أن يوظفه ووافق أن يبيت في الجزء الخلفي من المحل، مكتشفًا أن هناك من قد يحب له الخير دون مقابل ويصبر على ذنبه دون عقاب.

 

إرسال تعليق

أحدث أقدم